أحمد الشيخاوي
طالما عودتنا الشاعرة السورية المغتربة ريم سليمان الخش، أن الكتابة أسلوب حياة، وهي في مسيرة إخلاصها للقصيدة العروضية، وشغفها الكبير بالتجديف في خضم عوالم هذا الجنس الإبداعي المنفلت، على نحو يرعى الخطاب النيوكلاسيكي ويتناغم مع إيقاعاته، إنمّا تبرز للمتلقي جوانب أخرى من شخصية وخصائص الأنثى العربية المناضلة حياتيا وإبداعيا.
شخصية مركزية قوية ومؤثرة، تمقت أن تقبع عند خطوط الحياد، وتأبى إلاّ أن تنغمس إيجابيا في كل ما ينبثق من ذاتها كشاعرة مغتربة، وإزاء سائر ما يجري في محيطها مع ارتباطه بمجريات كونية مكمِّلة ومسترسلة وممتدة.
شخصية تجسّد القوة الناعمة بكل طقوسها، بحيث تنشد إلى الجذر، وتمارس الفعل العروضي، على إيقاعات أوجاع وطنها الأصلي، معتبرة أحلامها من أحلامه وآلامها من آلامه.
في مناولتنا السالفة لتجربتها الشعرية الباذخة والغزيرة، والتي انتقينا لها وسم: دوال الاغتراب في الشعرية العربية الحديثة، تطرقنا إلى جملة من التيمات التي تحكمت بمنجز ريم الشعري، ونحتت أصداءه المصقولة بحس الانتماء، لذلك ارتأينا أن نقارب من خلال دراسة جديدة أحدث دواوينها، مقاربة تأويلية تثبت علو كعب هذه الشاعرة الاستثنائية، وتسلط الضوء على أبرز محطات التحول والتطور في مشوارها الشعري المتدفق، المتناغم وتصاديات الكتابة الخليلية، محاولة نفض القشيب عن جديد أرديتها.
إنه عالم جديد، يجعل من كل قصيدة ولادة ثانية، تنأى بالذات الشاعرة عن تمظهرات الجمود والاستنساخ والاجترار، مهما توغلت أكثر في مركزيتها، وتوهّجت لها ذبالة النرجسي.
مبدعة تتصيد آفاق الجمال بحسّ منقطع النظير، وتتخذ من دوائر الوجع الإنساني، سياحة روحية واصلة بالمنبت، مقيمة في معاني تشظّياته.
من هنا استقرار وعي شاعرتنا على المنحى العروضي، المدغدغ بتفاصيل نيوكلاسيكيته، وهو سحر يقترحه المنجز ويذود عن مكتسباته، ليس يتأتى فقط، بمسايرة مقولة أن الكم يولد الكيف، وأن الغزارة تحقق النوعية، بل نتعثر في الكثير من الأحيان، بما يدل على أن نظير هذه التجارب، يجعل من الشعرية أو الشعريات، فلسفة حياتية ووجود أسطوري لكتابة الذات والعالم عبر انبثاق مركزي، يجعل من إنسانية الكائن رأسمال حقيقي، كل ما دونه مجرد ظلال وامتدادت.
تقول:
لن يُغسل الحزن الدفين بدمعة
إلاّ إذا وهبت له طوفانَه
يا نوح يا رب السفينة هل لنا
إثر الأسى من يفتدي أوطانه
هل تستعاد القدس ذات عزيمة؟
فتردّ للشرق الأصيل حصانه؟{1}.
من تمّ فهي أصالة انتماء، بيد أنه انتماء منقوص أو مشوه، وهو يستدعي حضور حلاج، مخلّص ما، في استدعاء استعاري منحته القصيدة اسم نوح، هنا. المهم ذلكم الكائن الرمزي والقادر على استثارة الطوفان في العربي الغيور على أرضه.
ولنتأمل حجم الفداء، فداء فلسطين السليبة، جوهر الشرف العربي ومشتله، لنتأمله على النحو الذي رسمته الصورة الشعرية في هذا المقطع، وفي حدود الفروسية التي تعادل مثل هذه الندهة التي فاض بها المكنون، فأتت جارفة بالحنين إلى ماضي البطولات والأمجاد.
فما خلاص فلسطين، وتطهير الشرف العربي المشوه، واكتمال انتماء الشرق، إلاّ بظهور حلاج فارس، قد يكرر طوفان نوح، ويحقق معادلة الهدم من أجل البناء والفوضى من أجل الترتيب والإغراق من أجل النجاة.
لقد برعت ريم من خلال هذا المقطع، ودواوينها ثرية بتجليات واستغراقات مثيلة، في جرد جملة من المتقابلات، بزخم تصويري وفني كبير، كي تضع القارئ إزاء لوحة وجودية دامية، مستفزة برمادية فصولها، وواشية بمكامن خلل وعطب إنسانية العربي في كل قطر، وفي كل مكان.
الفوضى العالمية في مقابل الانتماء العربي المشوه أو المنقوص.
وتقول كذلك:
أمدّ له حبل النجاةِ فيُشنقُ
فؤادٌ على حبلِ الغرام معلَّقُ
فؤادٌ إذا صافحتهُ خلت أنه
أتى من حكايا الجنّ عفريت أزرق{2}.
لعله عوْد الأنثوي في لحنه المخاتل، فاستقامة مفهوم الانتماء وإدراك أبراج كمالياته، ليس تتحقق إلاّ بتفجير ينابيع الأنوثة، وتحفيز صبيبها.
إنه صوت التحريض والتمرّد الخفيض، المسعف بتجليات الفروسية، والمخول لانثيالاتها. ولنتملأ انزياحات هذا المقطع البصري الرهيب، المحبوب الغريق، والمساومة تكمن في كيفية نجدة هذا الحب المؤجل أو المعلق، لحين اكتمال صفات الفروسية ونعوت” الحِلاجة” في هذا المحبوب، وإلاّ فدون ذلك هذا العطل الوجودي الكبير، والعلة الإنسانية الصارخة والتي اسمها ” هوية مذبوحة”.
بينما يرخي الملمح الفلكلوري موجها الخطاب الشعري، باعثا على مأسسة أسطورية وعجائبية والجة في تشييد دعاماته.
هو المعمار الفني الحلزوني الذي يجعل من الانتماء المنقوص دائما، ظاهرة
شعرية، توقد اهدأ الثورات في الموغل من الذات الشاعرة، الشاردة في فراديس
القوة الناعمة، تماما مثلما سبق وأشرنا.
لذلك نوضع غالبا إزاء هذه الزرقة المفتقرة إلى كتابة ” التحلّج” نسبة إلى الحلاج، أو اقتراف جريرة تلاوين الفروسية المنتصرة لأمّ قضايا العروبة والإنسانية، الجرح الفلسطيني العميق، المتجلّي فيها غبن الشرق واختلالاته.
هامش:
{1} مقتطف من قصيدة” فترد للشرق الأصيل حصانه”، صفحة7. ديوان: حلاج بعشق مذبّح.
{2} مقتطف من قصيدة” وكم ظنّت المرآةُ أنك أحمقُ!!”، صفحة10. ديوان: حلاج بعشق مذبّح.