نوفمبر 4, 2025
964 views
كمال عبد الرحمن
لا شك أن الشرط الأول في البنيوية هو الصورة الشعرية وهي لوحات فنية، وصور بلاغية، ورسوم، ومشاهد، ترسمها الكلمات، فهي أحيانا تحدثك بغير الواقعي عن الواقع، وترسم لك صورا فنتازية، ترسل من خلالها إشارات للوصول الى ما هو منطقي ومعقول، وعالم الصورة الشعرية، هو مملكة من التخييل والإشارات والمتضادات والرموز، وإذا كان للقصيدة معجزة، فإن الصورة الشعرية هي معجزة القصيدة.
يقول الحسين بن خليل في قصيدته” كنت تلم أفياءك نكاية بالضباب”:
لا فيء تجنيه جديلة من غرس قمرا
أمام ضوء غرر به الماء
أيجنى فيء يتلاشى؟
كان خلاصا مشدودا من وجنتيه الى ربوة لا انحدار
على جانب منها
لأعتليه هكذا دون أن أشرب من الظل شيئا
تبرعت بكل فراغي لأحتويك
رغم أنك حزن
رغم أنك مرساة لم يوكل لها أمر قافلة،
مرساة لم تفطن لثقل كبريائي
مرساة لم تخبر الضباب بشروطها
فساب وجهي بين الرذاذ
فالصورة الشعرية تنبع من أرقى ملكات النفس الإنسانية، ويرتبط جمالها بما توحيه من معان وصور داخلية لأن الشاعر لا ينقل الينا العالم الخارجي وانما يعبر بصياغته على وفق تجربته وما يضفيه من إحساسه وأفكاره فتصبح الصورة معيارا لعبقرية الشاعر ويبرز ذلك بوضوح عندما تشكلها عاطفة سائدة أو مجموعة من الأحاسيس المترابطة إثارتها عاطفيا ومصدرها هو إحساس الشاعر.
ومن استعمالات الانزياح في هذه المقاطع تتشكل صورة شعرية رسمتها كلمات الشاعر الحسين على النحو الآتي:
فالانزياح واضح في (فيء تجنيه جديله / غرس قمرا/ أمام ضوء/ غرر به الماء/ أشرب من الظل/تبرعت بكل فراغي/ لم تخبر الضباب بشروطها/ انك مرساة / انك حزن… الخ) فالأفكار والصور يرسم الشاعر من خلالها مشاهد ذهنية، ثم يسقطها على الواقع عن طريق الكلمة، التي هي رسول اللاواقع الى الواقع ،فالصورة الشعرية هنا تبرز بأحد أنواعها( الصورة الاستعارية)، ويتجلى جمال هذه الصورة في خلق علاقات لغوية جديدة بين الكلمات تتجاوز دلالاتها المباشرة، لأن الشاعر يميل في تعبيره عن عوامل شعرية مجردة، بطريقة تجعله يستثمر مدركات العالم وأشياءه الحسية ، للقيام بمهة الأداء (وذلك بعد أن يعيد تشكيلها وفق ما يتصوره من معان ودلالات تعجز اللغة المباشرة عن الإفصاح عنها) ، والشاعر الحسين بن خليل في قصائده ــ وبخاصة في الاغراض الشعرية ذات الحساسية العالية ــ يستثمر الصورة البلاغية، لأن وظيفة الصورة البلاغية التمثيل الحسي للتجربة الشعورية كما في نص ” تتقصد .. ولا تكف ربوتي”:
كمن يضع كل ألوانه في فم امرأة ليقبل
أو كمن يتوه وفي مرآته موجة مكبوتة
أو يبتلعه الإثم وهو يتعكز الى ربوة أكيدة
ثم ينازل دكة تلو أخرى
نلاحظ هنا أن الشاعر الحسين بن خليل قد وظف التشبيه وتنوعت انماطه في شعره, فمن التشبيهات التي وظفها الشاعر في تجربته الشعرية, هو دوران النفس في فم التيه، وينبغي أن نعرف أن الصورة التشبيهية تتألف من أربعة عناصر هي:
(المشبه/المشبه به/أداة الشبه/ وجه الشبه)فالمشبه في قصيدة الحسين هذه هو “افتراض شخصي مجهول” والمشبه به “عاشق، وأداة الشبه ” الكاف”، ووجه الشبه ” الضياع”، ومما يلاحظ في نصوص الحسين بن خليل هو كثرة التشبيه بمشبهات ذات شعرية عالية، مما يغني النص ويفتح آفاقه على دلالات مغايرة ذات مسميات لفظية رائية، تتعالق نصيا مع شرف المعنى كما يقول الجرجاني، ولمزيد من أمثلة التشبيه نقرأ:
** كأنها سفح موصلي
أو أركان معبد” الاهداء ــ الديوان ص3.
وكذلك:
** كمن يضع كل ألوانه في فم امرأة ليقبل
**أو كمن يتوه وفي مرآته موجة مكبوتة
** كمن يلتف حول عتق ليقبل
** كمن يتوه وأنت دليل
** كآنية وانت تضمين الليل
** كنت كالقروي معك ـــ ” نص” تتقصد .. ولا تكف ربوتي” ــ صفحات متفرقة
وكذلك:
** وأنا أرقب كقلم امرأتين في خصر”
** كم يوصب بين شقفتين “الديوان ص24.
وهناك أمثلة عديدة على استعمال الشاعر الحسين للصورة التشبيهية، بصفتها تشكل وعيا جديدا للقصيدة، التي أنهكها الملل، فالصورة التشبيهية هي جزء من الصورة الشعرية التي يعرفها” سيسيل دي لويس ” بأنها((رسم قوامه الكلمات)), ان الوصف والمجاز والتشبيه يمكن ان تخلق صورة, او ان الصورة يمكن ان تقدم الينا في عبارة او جملة يغلب فيها الوصف المحض, ولكنها توصل الى خيالنا شيئاً اكثر من انعكاس متقن للحقيقة الخارجية ، ومن عائلة الصورة الشعرية نجد الصورية الكنائية، و الكناية هي أن تقول شيئا وتريد غيره، والكناية لفظ أطلق، وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة ذلك المعنى ، وهو عند ابن رشيق (( من غرائب الشعر وملحه، فهي بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة واختصار وتلويح، يعرف مجملا، ومعناه بعيد عن ظاهر لفظه)) والكناية هي أن تعبر عن شيء بطريقة أخرى غير معتادة فلا تقول للكريم مثلا” هذا رجل كريم” بل تقول عن ذلك” رجل كثير الرماد ” أي أنه يشعل الكثير من الحطب كناية عن كثرة تقديمه الطعام وهكذا ، وفي نصوص الحسين بن خليل أمثلة عديدة على الصورة الكنائية، حيث يقول في قصيدة”
وأنا كالليل
أفقه كل أنواع العبور حين لا تغفو آلهة النور،
أو كالعميان
لا أعرف وجود المارين الى الخزائن حتى تتعرى
أصابع اقدامهم وتمر على أطرافها، لكنهم مفتضحون
لا اعرف كيف يكون للأوراق أن تقارن مع البساتين بحجة
أن كلا منهما يتذكر قهقهة الصبيان
دون الرجوع لما تضمره الرؤوس
فالملاحظ هنا أن الشاعر بدأ بأداة الشبه( الكاف) وهذا تقديم له جماليته الخاصة في الأسلوب الشعري للشاعر، في هذه الصورة يتعدى الشاعر البحث عن العلاقة بين اللازم والملزوم اللذين يشكلان حدّي الكناية, لينتقل الى البحث عن العناصر المكونة لصورة (الليل) الذي هو رمز لذاكرة الأسرار المفضوحة، وقد تفنّن خيال الشاعر الحسين في إخراجها هذا الاخراج الغريب، حتى يتناسب الرمز مع المرموز اليه، وحتى يوافق المحتوى الشكل الذي صيغ فيه، لهذا بدا (الليل) لدى الحسين كناية عن ثلاث فعاليات انسانية, لأن الشاعر قد أضفى عليها بعض احاسيس الإنسان في جانبها المخلص الوفي، حيث تمثل له هذا (الأفعال) في صورة خيارات يضعها الشاعر بين يدي الليل، فالشاعر هنا ينمّي الصورة الكنائية بهذا الاستطراد والتفصيل, ويضفي عليها غلالة من الخيال الحسي المثير الذي يذكيه وجدان شعري مفعم بالدهشة والتمرد والجمالية من جهة، ومن جهة ثانية لم تعد الكناية هنا مجرد لازم وملزوم, لأن المعنى الظاهر لعبارة(أفقه كل أنواع العبور حين لا تغفو آلهة النور،أو كالعميان), يتصل مباشرة بلازمه, أي بمعنى (المعنى) نظراً لانعدام الروابط الذهنية والشكلية بين حدي الكناية، أعني اختفاء القرائن الدالة على المعنى الخفي, واختفاء القرائن سيعمق دون شك عنصر الغموض الذي يكتنف الصورة الكنائية؛ هذا ان لم تكن الصورة غامضة في أساسها بسبب دلالتها الرمزية البعيدة التي قد تكون بلا وعي الشاعر. وفي هذا الحال فإن تحديد مدلول الصورة وبيان ما يرتبط بها من افكار لا يصلح فيه التخمين والارتجال, وإنما هو معرفة بأحوال النفس والمجتمع، وطريقة تصورهم للأشياء، ونحن هنا لم يكن بوسعنا فهم مدلول صورة الحسين لو لم نكن على علم بفكرة الأحاسيس العظيمة، والارتباط الاجتماعي البيئي الوثيق التي أشرنا اليه سابقاً.
والخلاصة أن الشاعر عندما يكتب قصيدة جديدة، لا يعني انه يمارس نوعا من الكتابة فحسب، وانما يعني انه يُحيل العالم الى شعر “يخلق له فيما يتمثل صورته القديمة، صورة جديدة، فالقصيدة حدث أو مجيئ، والشعر تأسيس، باللغة والرؤيا، تأسيس عالم واتجاه لاعهد لنا بهما، لهذا كان الشعر تخطيا يدفع الى تخطي”، ومع هذا.. مع كل هذا، لقد وضع الشاعر الحسين بن خليل نصوصه في فوهة المدفع، ووضع تقاناته وقدراته في أتون المحنة الشعرية، وغامر وقامر بالكثير من معطيات نصوصه هذه.. لكنه كما يعلم او لايعلم..أزف اليه بشرى النصر على اعداء النص، هؤلاء الاعداء الذين كان بإمكانهم ان يخلخلوا البنية الشعرية والصفة الابداعية في القصيدة، ومنهم(الأنا الطاغية)و(ضيق افق النص) و(الخطابية والتقريرية والمباشرة) وغيرها..كلهم انتصر عليهم شاعرنا بنجاح وابدع وتفوق، ولقد رأينا مساعي الحسين بن خليل الباهرة في خلق اللغة وتفجيرها من الداخل، وكيف سعى الى وضع سمات اللغة الشعرية الثائرة في مشروعه الابداعي، وذلك عبر ابتكار صور شعرية رائية أيقظت في ضمير السؤال أجوبة لاهبة من خلال الحفر في منطقة الأسئلة الكبرى، تلك المنطقة غير منزوعة السلاح والمحرمة سياسيا واجتماعيا وايدلوجيا على الاصغاء الى شكاوى الجرح الذي يبكي ليل نهار.
مقالات ذات صلة